×
محافظة الرياض

مترو الحياة

صورة الخبر

عند ركوبي «مترو الرياض» للمرة الأولى، لم يكن الانتقال بين المحطات مجرد حركة جسدية من نقطة إلى أخرى، بل كان درسًا صامتًا في فهم الحياة، جلست أراقب الأبواب وهي تُفتح وتُغلق، وجوه تصعد وأخرى تنزل، وكأن المترو يعيد تمثيل مشهد الحياة أمامي بلا استئذان. في كل محطة، يترجل بعض الركّاب وقد اكتملت رحلتهم، بينما تمتلئ العربات بآخرين؛ قد يكونون الوجوه ذاتها، وقد يتغيرون، تمامًا كما هي الحياة: نلتقي أشخاصًا في مرحلة، ثم نفترق عند محطة ما، لا لأن القلوب تغيّرت بالضرورة، بل لأن الوجهة اختلفت. تساءلت: ماذا يترك كل إنسان خلفه عند نزوله؟ أثرًا طيبًا؟ ذكرى عابرة؟ أم فراغًا لا يُلحظ؟ وماذا ينوي أن يصنع حين يصل إلى محطته التالية؟ فكل صعود ليس صدفة، وكل نزول ليس نهاية، بل انتقال إلى دور جديد، ومسؤولية جديدة، واختبار آخر للنوايا. بين الانتظار والانطلاق، خطر لي سؤال أثقل من الضجيج حولي: هل لأعمالنا أثر حسن في كل محطة نمر بها؟ هل نغادر الأماكن وقد أضفنا شيئًا، أم نرحل دون أن يُفتقد وجودنا؟ وإلى أين نحن ذاهبون حقًا؟ ومتى ستكون محطتنا الأخيرة؟ وبينما كنت غارقة في هذه التأملات، حدث ما لم يكن في الحسبان.. فاتني النزول عند وجهتي المعنية، وجدت نفسي في محطة مختلفة، لا تشبه ما خططت له، لحظة قصيرة، لكنها كانت كفيلة بإعادة صياغة أسئلة أكبر: كيف أتصرف حين لا تسير الحياة كما أردت؟ كيف أتخذ قراراتي حين تُفرض عليّ خيارات لم أخترها؟ وكيف أعود إلى المسار الذي كنت أظنه الطريق الوحيد؟ حينها أدركت أن الحياة لا تُقاس فقط بقدرتنا على الوصول، بل بقدرتنا على التعامل مع الانحرافات، فكم من إنسان فاتته محطة كان يظنها نهاية الحلم، ليكتشف لاحقًا أن ما بعدها كان أوسع وأعمق، وكم من مسار تغيّر فجأة، لا ليكسر صاحبه، بل ليختبر استعداده، ومرونته، وشجاعته في المواجهة. الحياة، كالمترو، لا تنتظر أحدًا طويلًا، الأبواب تُغلق، والمحطات تتوالى، والقرار في يدك: إما أن تبقى أسير الحسرة على محطة فاتتك، أو أن تستثمر الوجهة التي وصلت إليها، مهما بدت مختلفة. وفي النهاية، السؤال الحقيقي ليس: هل وصلنا كما أردنا؟ بل: هل كنّا مستعدين حين تغيّر الطريق؟ وهل تركنا في كل محطة مررنا بها أثرًا يستحق أن يُذكر؟ فمترو الحياة ماضٍ.. شئنا أم أبينا، والعاقل من أحسن الرحلة قبل أن يحين النزول الأخير. jawaher__alrogi@hotmail.com