لا تملك السلطات «الدنيا» في تماهيها مع السلطة أو السلطات «العليا»، وهي تعيش وتتعيش تحت ظلالها وأجنحتها، إلا أن تكون على الدوام سلطة وحشية، سلطة رثة تمارس إجرامها، كأنه حق من حقوقها المقدسة، فيما هو من طبيعتها كسلطة غير عاقلة، وهي في مطلق الأحوال لا تمارس عقلانيتها إلا إزاء مصالحها الزبائنية الخاصة، أما إزاء الآخرين من الناس - المواطنين، فهي لا تملك سوى القمع والترهيب، إلى حد القتل ولو طحناً، كما حصل لبائع السمك المغربي (محسن فكري)، وقبله لمحمد البوعزيزي. وكل ذلك من أجل سلطة استملاكية، أسست وهيأت عبر سنوات التسلط، سلطة بيروقراطية لذوي الياقات الحمر و «الدم الأزرق»، سلطة عزت نظائرها في بلاد صارت تتم استباحتها من قوى غزو داخلية، حطمت كل الأواني، ولم تبق أو تستبقِ للخارج، سوى المشاركة الخجول في البداية، والمفضوحة في ما بعد، وبالتالي المصادقة على طبيعة النظام - الأنظمة القائمة، البوليسية والأمنية المنشأ، ما دامت تقوم بأدوارها المشهود لها، كبيروقراطيات عسكرية باتت تتحكم في إمبراطوريات اقتصادية وتجارية، مدنية وعسكرية، وكل ذلك في خدمة استراتيجياتها الأمنية، ولو تطابق مع الأمن الاستراتيجي لكيان الاحتلال الإسرائيلي، ومصالح حلفائه الغربيين والشرقيين على حد سواء. السلطة هي السلطة، أياً كانت طبيعتها، إذ إن طبعها الغلاب دائماً ما يتفوق على محاولات تطبعها، وليس أدل على ذلك من أنماط السلطات الشمولية، ومنها تلك الوراثية أو التوريثية التي تحمل في جيناتها كثيراً من ترسبات الماضي، وتتكون الآن وفق الأنماط والمعايير ذاتها التي استقرت، واستمرت بفعل الاستبداد ومراكز القوى الاقتصادية والتجارية، وكثير من أنماط الهيمنة الأهلية والطائفية والعسكرية والبوليسية لأجهزة السلطة الأمنية، وهي تهيمن أيضاً على الدولة. لا تختلف في هذا الأمر تلك التي تعاقبت على السلطة، منذ ما قبل الدولة، مروراً بطبائع الاستبداد السلطوية الدينية والسياسية، وصولاً إلى ما نشهده اليوم من سرديات حكم وحكام تقطعت بهم سبل السلطة العادلة والحكم الرشيد، فآثروا العودة إلى سلطة جائرة وحكم مديد، عماده إما بعض المرجعيات الدينية أو تلك العسكرية، أو أطماع الهيمنة السلطوية الأبدية، من دون الاستناد إلى أي مرجعية دستورية أو قانونية، كحال جمهوريات سماتها الأبرز استملاكية جنرالاتها وعسكرييها الأمنيين والمقربين منهم في كثير من جمهوريات بلادنا، وغيرها من سلطات تجاوزت مساعيها لتأبيد هيمنتها على شعوبها ومجتمعاتها ودولها، نحو تأكيد آليات ومعايير حكم استبدادي جائر تراد له الديمومة والبقاء ما بقي السيد الرئيس يحرس النظام و «يفديه» بعمره المديد، وأعمار أنصار السلطة العميقة، كحراس أمناء للسلطة المطلقة. لهذا، أمكن التأكيد مرة أخرى، مما ذهب إليه فوكو، من أنه «لا يجب اعتبار السلطة كأنها ظاهرة هيمنة واحدة موحدة ومنسجمة. كهيمنة فرد على مجموعة أو مجموعة على مجموعة، أو طبقة على طبقة، بل يجب أن نعرف أن السلطة، إلا في حالة تقديرها من أعلى ومن بعيد، ليست شيئاً يمكن تقاسمه أو توزيعه أو انقسامه بين الذين يملكونها والذين لا يملكونها، بين الذين يمارسونها والذين يخضعون لها». هي ظاهرة سلوكية قمعية ترى في كل تعارض معها خروجاً على معايير السيطرة والتحكم السلطوية، تتطلب التدخل واستعادة الهيمنة، فكما للسلطة العميقة أنصارها المنتشرون أفقياً، كذلك للسلطة المطلقة حراسها الواقفون على أبراجها العالية. * كاتب فلسطيني