نحن ندعو إلى إعطاء العقل حقه من التأمل، وفك أسره من قيود التبعية والانغلاق، ونحث على تخطي الرسوم التي لم نؤمر أن نقف عندها، ونحث على توسيع دائرة النظر، وعدم الجمود على كثير من الفقهيات التي لا تعدو أن تكون رأياً احتيج إليه في نازلة معينة تَنازع قومٌ في البخاري ومسلمٍ لديّ فقالوا أيّ ذين تقدمُ فقلتُ لقد فاق البخاري صحةً كما فاق في حسن الصياغة مسلمُ بهذين البيتين صوّر الأديب الفقيه حمدون السلمي نوعية الخلاف في الصحيحين، وبهما أفتتح مقالي، ولن أبدأ بنقل كلام المتقدمين والمتأخرين في منزلة الصحيحين وشرفهما وعلو كعب مؤلفيهما، فإن ذلك يطول ولا يفي بهذا الغرض مقال في صحيفة، أو كتاب في سقيفة، ولكني استفتحت أدبياً بالإشارة إلى خلافٍ راقٍ، يزيدهما شرفاً وعلواً، وينبي عن تسابق المادحين والأدباء أيهم يقدر على استيعاب جمل الثناء في الصحيحين في مقالٍ أدبي أو أبيات من الشعر ليثبتَ أيهما أجود وأعظم صحة من الآخر! والمادح للصحيحين يزداد بمدحهما شرفا، والمطالع فيهما يزداد حكمة وعلما. ولم يفكر قط ذو علم وفقه، ومتبع لسنة، ومقتد بسلف في خلاف من نوع آخر، إذ إنه لم يكن يخطر في بال جاهلهم بله عالمهم خلاف من شأنه أن ينقص من مرتبة الصحيحين، أو يقلل من قدرهما، فدون الصحيحين أسوار مسورة من جهابذة العلم وأساطين النقد الذين كانوا لا يتسامحون مع حملة الشريعة ولو في إفراط في مباح أو وهمٍ في حرف، ولو استطاع بلغاء قريش وفصحاؤها أن يقدحوا في كتاب الله تعالى لما ترددوا هنيهة، ولكن الله تكفل بحفظ الذكر، ولا يحفظ الدين إلا بذلك، ولا كتاب إلا بسنة، كما أن الركن الأول في ديننا قسمان، لا ينفصلان، ولا يكفي أحدهما دون الآخر، فلا يكفي أن تشهد بوحدانية الله حتى تقر برسالة نبيه ومصطفاه، صلى الله عليه وآله وسلم، وليس معنى ذلك الإقرار إلا أن يُتّبع ويُعرف منهجه وتُدرى سنته، وينظر في حياته كلها ليتأسى بها المسلم، ويرى ترجمان كلام الله جل في علاه في سيرته وسنته، بأبي هو وأمي، صلى الله عليه وآله وسلم. فجهابذة النقاد للسنة، وقمم العلم بها، لم يكونوا إلا مصداقًا لما في الكتاب العزيز من حفظ الله لهذا الشرع المطهر وتصديقاً لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخبر به عن تهيئة الله لرجالٍ يحملون العلم، ويذبون عن الهدى، تكاثرت بذلك النصوص وتظافرت، بما لا يدع لباحث فضلاً عن عامي لا يفقه شيئاً من كتاب أو سنة، مجالاً للتشكيك فيما اتفق على صحته علماء الأمة، وحكم بقبوله ذوو الشأن، من رجال توالت القرون، وتناقلت ألسن الثناء عليهم، والأخذ عنهم. ولله در ابن حجر العسقلاني وهو أحد هؤلاء الأساطين، حين قال: قُل لِلمُخالِف لا تُعانِد إِنَّهُ ما شَكَّ في فَضلِ البُخاري مُسلِمُ رسم المصنفَ بِالصَحيحِ فَكُلُّ ذي عَقلٍ غَدا طوعاً لما هوَ يَرسُمُ هَذا يَفوق بِنَقدِهِ وَبفقهِهِ لا سيّما التَبويبُ حينَ يُتَرجِمُ وَأَبو الحسين بِجَمعِهِ وبسَردِهِ فالجمع بَينَهُما الطَريق الأَقوَمُ فَجَزاهُما اللَهُ الكَريمُ بِفَضلِهِ أَجراً بناءُ علاهُ لا يَتَهَدَّمُ وليس تخصيصنا ذكر الشيخين، وكتابيهما الصحيحين يعني الاستهانة بمن هو دونهما من أهل الرواية والنقل، لكنّ من تجرأ على الطعن والتشكيك فيهما فجرأته على ما سواهما أعظم، ولذلك بتنا نسمع ونرى من ينسب نفسه إلى العلم ويتكلم بلسان الباحثين يُكذّب ويطعن في مُسلّمات أغنت شهرتها عن النظر في سند روايتها، وتلقته الأمة كابراً عن كابر، ومع ذلك هي في أصح الكتب بعد كتاب الله؛ في البخاري ومسلم، بل وغيرهما من كتب السنة المطهرة، كصيام يوم عاشوراء مثلاً، كما تناقلته وسائل الاتصال الاجتماعي من رد أحدهم سنيته، بل وزعمه الكاذب أن ما روي في شأنه موضوع ومكذوب، على الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم. وإنما أُتي من قبل جهله وقلة درايته، فنظر نظراً قاصراً، وتجرأ على تكذيب الحديث متجاهلاً إجماع العلماء وقبولهم للحديث والعمل به والترغيب في صيام يوم عاشوراء، وغاية شبهته لا تنطلي على متأمل في حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان يحب موافقة أهل الكتاب أولاً فيما لم ينهَ عنه، فوجدهم يصومون اليوم الذي نجّى الله فيه موسى عليه السلام وقومه وأهلك فرعون وجنده، ووافق ذلك في يوم عاشوراء، وقد كان أهل الجاهلية أيضاً يصومونه، فاستمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صيامه، وأمرهم بذلك، ثم جعله ندباً لا واجباً، حتى أُمِر بمخالفة أهل الكتاب فأمر بصيام يوم قبله أو بعده، وكان قول الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم "إن اليهود يصومونه" ليس لأنه لم يكن يعلم، بل لأنه استجد في نظرهم استحباب مخالفة أهل الكتاب فقال صلى الله عليه وآله وسلم "لإن عشت إلى قابل لأصومن التاسع"، فليس هناك أي تعارض أبداً بين أول الحديث وآخره، ولا بين رواية وأخرى، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وإنما تضطرب الأحاديث وتتعارض حين يكون في القلب مرض من شبهة، أو في العقل اضطراب في الفهم. مع قلة وضعف التأصيل العلمي. ومتى اكتسى القلب بالهوى، أو شابه حب الظهور والتصدر، فإن النتيجة لن تقف عند رد الأحاديث والأحكام، والتشكيك في حملة الشريعة وناقليها، وطمس الموروث، وقطع طريق آخر هذه الأمة عن أولها، بل ستنتهي عند الكفر والإلحاد، ومصادمة القرآن نفسه. ألا يتريث أولئك المشككون عن الهذر حتى ينهلوا ولو عشر معشار ما تعلمه أولئك القوم؟ ويا ترى أي غاية أمّوها حتى يتجرأ الواحد منهم على نشر وساوس فكره، ودياجير خواطره؟ ولمصلحة من؟ أللعلم، أم للإيمان والتقى؟ نعم نحن ندعو إلى إعطاء العقل حقه من التأمل، وفك أسره من قيود التبعية والانغلاق، ونحث على تخطي الرسوم التي لم نؤمر أن نقف عندها، ونحث على توسيع دائرة النظر، وعدم الجمود على كثير من الفقهيات التي لا تعدو أن تكون رأياً احتيج إليه في نازلة معينة، وزمن معين، ولكن هذا لا يعني بحال الخروج عن الخط المرسوم، والسبيل المعلوم الذي أسسه أئمة الإسلام ليكون لنا نبراسًا نستضيء به في كسب المعارف، واستبانة الحقائق، ولا يعني أبداً أن نهدم ما بنوه ، ونطمس ما رسموه، فالدين في معناه الكلي اتباع، يتبع من خلف من سلف، وإن كان ثمة تجديد ففي أشياء لا تمس أصوله وثوابته، ولا تثلم شيئًا من سوره الحصين، وصرحه المكين، بل هو تجديد يثري إيجابًا، ويتناسب مع حاجة العصر، ويفسح المجال لإعمال العقل وتنوير الفكر عبر الاتكاء على ما مضى، واحترام ما قد سلف، وصدق الله حين قال: "واتبعوه لعلكم تهتدون".